کد مطلب:370285 سه شنبه 23 مرداد 1397 آمار بازدید:896

الفصل الثالث الإباضیة.. انکفاء.. انطواء..












الصفحة 294












الصفحة 295


تساهل الإباضیة هو سر بقائهم:


إن الاعتدال النسبی فی تعالیم وعقائد الإباضیة، وكذلك اتساع نطاق معارفهم، رغم أنها كانت ولا تزال متواضعة جداً، ـ ثم وإدراكهم ـ جزئیاً ـ لضرورات الحیاة، قد قلّل من حدتهم فی تعاملهم لیس فقط مع غیرهم، وإنما مع بعضهم البعض أیضاً، وقلل من فرص تفرقهم إلى فرق ومذاهب، كما كان الحال فی السابق.


كما أن فرقة الإباضیة: قد ثبتت وبقیت، ولم تتصدع وحدتها حتى الآن. ولم یجد الحكام ضرورة لممارسة ضغوط حادة علیها، حیث ظهر لهم أن تعالیمها لا تعارض مصالحهم.


ومما یشیر إلى تساهل الإباضیة قولهم: إن مخالفیهم من أهل القبلة كفار غیر مشركین، وإن دارهم دار إسلام، لا دار كفر، وإن مناكحتهم جائزة. وأجازوا شهادتهم، ووراثتهم. وحرموا قتلهم غیلة، وفی السر.


وإنما یجوز القتل إذا أقاموا على خصومهم الحجة، وأعلنوا لهم بالقتال. وحینئذٍ فلا یجوز من أموالهم إلا ما یغنم من الحرب،












الصفحة 296


مما یعین على الحرب، كالسلاح. وما عداه فهو حرام. والمؤمن إذا ارتكب كبیرة فهو كافر كفر نعمة، لا كفر شرك(1).


قال ابن خلدون: «وقول هؤلاء أقرب إلى السنة»(2).


ویقول فلهوزن: «الخوارج الإباضیة ألین عریكة، لم یكن هدفهم ـ مع طهارتهم، وشدة تمسكهم بالدین ـ أن ینتصروا على جماعة المسلمین بالقوة، بل أن یكسبوهم لمذهبهم»(3).


وقال عز الدین التنوخی، عضو المجمع العلمی بدمشق، بعد ذكره: أن الإباضیة ینقلون أقوال المذاهب الأربعة، ویستشهدون بأحادیث الشیخین، وغیرهما: «مما یدل على أن الإباضیة فی المشرق والمغرب مذهب قریب من مذاهب السنة»(4).


ونقل الحارثی الإباضی عن المبرد قوله: «.. قول ابن إباض أقرب الأقاویل إلى السنة. وابن حزم حسبما حكاه عنه ابن حجر فی الفتح


____________



(1) راجع فیما تقدم: تاریخ الفرق الإسلامیة، للغرابی ص277و283 وتاریخ المذاهب الإسلامیة ص83و85 والعبر ودیوان المبتدأ والخبر ج3 ص145 والعقد الفرید ج1 ص223/224 والأنوار النعمانیة ج2 ص247 والخوارج فی العصر الأموی ص239 عن المصادر التالیة: تلبیس إبلیس ص19 ومقالات الإسلامیین ج1 ص204 و185 و186 و189 والكامل للمبرد ج3 ص104 والملل والنحل ج1 ص135 و134 ونقل أیضاً عن شرح المواقف ج3 ص292. وراجع: الخوارج عقیدة وفكراً وفلسفة ص81 متناً وهامشاً وص90 و91.


(2) العبر ودیوان المبتدأ والخبر ج3 ص145 والخوارج فی العصر الأموی عن الكامل المبرد ج3 ص104.


(3) الخوارج والشیعة ص111.


(4) العقود الفضیة ص166 و167 عن المقدمة التی كتبها التنوخی لمسند الربیع وشرحه.













الصفحة 297


الباری قال: أسوء الخوارج حالاً الغلاة، وأقربهم إلى قول أهل الحق الإباضیة»(1).


وقال أیضاً عن فرقة الإباضیة: «فرقة من معتدلی الخوارج..


إلى أن قال: والإباضیة لا تقول بكفر غیر الخوارج، ولا بشركهم، وتبیح الزواج منهم، وترى ضرورة الإمامة بناءً على اختیار الشیوخ وأهل الرأی، ولیس بلازم ظهورها دائماً، فقد یبقى اختیار الإمام فی طی الكتمان. وتسلم بأصول الفقه التی قال بها أهل السنة فیما عدا الإجماع»(2).


الفرنساویون.. والإباضیة:


وقد أثنى على الإباضیة أیضاً السندوبی فی تعلیقاته على كتاب البیان والتبیین(3).


ومن الغریب قول مصطفى إسماعیل المصری الذی اعتنق مذهب الإباضیة بعد أن قرر أنها هی الفرقة الناجیة: «.. ولقد شهد بهذا الحق جمیع الفلاسفة الفرنساویین الباحثین فی الأدیان، الذین وقفوا بكیاسة أدیانهم، وسلامة قیاسهم على أن نقاوة الدین الإسلامی لا تنحصر إلا فی مذهب اتباع ابن إباض»(4).


فهو یعتبر شهادة الفرنساویین للإباضیة دلیلاً على حقانیة هذه الطائفة، وصحة مذهبهم. ویرى أن هؤلاء الفرنساویین لهم قیاس سلیم،


____________



(1) العقود الفضیة ص156.


(2) الموسوعة العربیة المیسرة ج1 ص1 وراجع العقود الفضیة ص166 عنه.


(3) العقود الفضیة ص156 عن هوامش كتاب البیان والتبیین.


(4) العقود الفضیة ص168 و167.













الصفحة 298


وكیاسة فی أدیانهم!!


ولا ندری لماذا اختص الفرنساویون بهذا الأمر دون الفلاسفة البریطانیین، أو غیرهم من فلاسفة أقطار العالم. ولماذا لم یقبل ما یقوله فلاسفة الإسلام، الذین هم أعمق فكراً، وأبعد نظراً، وأشد إخلاصاً وخلوصاً من غیرهم من عملاء المخابرات، وأدوات السیاسة والسیاسیین.


فجوة بین عقائد الإباضیة وسائر «الخوارج»:


وكیف كان، فإن الفجوة كانت قد اتسعت بین عقائد «الخوارج»، وبین الإباضیة بدرجة كبیرة حتى قال عامر النجار عنهم: «هناك فروق عدیدة بین مبادئ الخوارج، ومبادئ الإباضیة. ولا یجمع یكاد بینهما جامع سوى إنكار التحكیم، وأن الإمامة لا تختص بقریش، وجواز الخروج على الحاكم»(1).


وقال أیضاً عنهم: «.. هم أقرب فرقهم [أی الخوارج] إلى الجماعة الإسلامیة. ومذهبهم أكثر تسامحاً من كل فرق «الخوارج». ولهذا كتب لهذه الفرقة البقاء دون سائر الفرق الخارجیة. فیوجد فیهم إلى الآن جماعات فی المغرب العربی، وعمان؛ وذلك بسبب تسامحهم مع مخالفیهم وإنصافهم لهم.


لكن الإباضیین غاضبون ممن یعتبرهم فرقة من فرق «الخوارج». ویقولون: إنما هی دعایة استغلتها الدولة الأمویة لتنفیر الناس من الذین ینادون بعدم شرعیة الحكم الأموی.


____________



(1) الخوارج عقیدة وفكراً وفلسفة ص82.













الصفحة 299


بل یقول البعض: إن للإباضیة العدید من المواقف ضد الخوارج»(1).


ویعلل البعض سبب اختلاف الإباضیة عن بقیة «الخوارج» بكونهم لم یغلوا فی الحكم على مخالفیهم ـ یعلله ـ بقوله:


«لعل هذا یرجع إلى طبیعة ظروف نشأتهم؛ فإن صاحبهم عبد الله بن إباض لم یخرج إلا بعد أن قضى الأمویون على «الخوارج» أو كادوا. وبعد أن كاد الیأس یدب إلى الأحزاب، وتحول نضالهم حول الحكم إلى آراء ومذاهب تكاد تكون علمیة بحتة»(2).


أما أبو زهرة فیقول عنهم: «هم أكثر الخوارج اعتدالاً، وأقربهم إلى الجماعة الإسلامیة تفكیراً، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو»(3).


الإباضیة وحكام الجور:


ومما یؤكد الحقیقة التی مرت: أن الإباضیة اتجهوا نحو التعامل مع حكام الجور تعاملاً یخدم مصالح أولئك الحكام، ویؤكد هیمنتهم وإمساكهم بالأمور بقوة، الأمر الذی جعل الحكام لا یجدون ضرورة لمواجهتهم، والتخلص منهم. بل إن وجودهم أصبح مفیداً للحكام أحیاناً، فلا غرو أن یصبح أیضاً مطلباً لهم فی هذه الحالات على الأقل.


والأغرب من ذلك أن یصبح بقاء الحكام أیضاً، واستمرار حكمهم بمزیدٍ من القوة والشوكة مطلباً للإباضیة حتى على مستوى قیاداتها!!


____________



(1) الخوارج عقیدة وفكراً وفلسفة ـ ص81.


(2) الإباضیة عقیدة ومذهباً ص45 عن تاریخ الإسلام السیاسی ص393.


(3) الإباضیة عقیدة ومذهباً ص45 عن تاریخ الإسلام السیاسی ص85.













الصفحة 300


ویتجسد لنا مصداق ذلك، فیما یذكرونه عن ابن إباض نفسه، من أنه «كان كثیراً ما یبدی النصائح لعبد الملك بن مروان»(1).


وكان قد بلغ السید: «أن عبد الله بن إباض، رأس الإباضیة یعیب على علی (علیه السلام)، ویتهدد السید بأن یذكره عند المنصور بما یوجب القتل.


وكان ابن إباض یظهر التسنن، ویكتم مذهب الإباضیة.


فكتب إلیه السید قصیدة یمدح بها أمیر المؤمنین (علیه السلام) أولها:


 









لمن طلل كالوشم لم یتكلم ونؤی، وآثار كترقیش معجم



فلما وصلت إلى ابن إباض امتعض منها جداً، وأجلب فی أصحابه. وسعى به إلى الفقهاء والقراء؛ فاجتمعوا، وساروا إلى المنصور، وهو بدجلة البصرة؛ فرفعوا قصته.


فأحضرهم، وأحضروا السید؛ فسألهم عن دعواهم، فقالوا: إنه یشتم السلف، ویقول بالرجعة، ولا یرى لك ولأهلك إمامة.


فقال لهم: دعونی أنا، واقصدوا لما فی أنفسكم.


ثم اقبل على السید، فقال: ما تقول فیما یقولون؟!


فقال: ما أشتم أحداً، وإنی لأترحم على أصحاب رسول الله (صلى الله علیه وآله). وهذا ابن إباض، قل له: یترحم على علی، وعثمان، وطلحة، والزبیر.


فقال له: ترحم على هؤلاء!


فتلوّى ساعة، فحذفه المنصور بعود كان بین یدیه، وأمر بحبسه،


____________



(1) شرح عقیدة التوحید ص93 والعقود الفضیة ص121.













الصفحة 301


فمات بالحبس.


وأمر بمن كان معه؛ فضربوا بالمقارع.


وأمر للسید بخمسة آلاف درهم»(1).


وما یهمنا من إیراد هذه القضیة هو الإشارة إلى استنصار ابن اباض بالمنصور، ووشایته بالسید الحمیری له، وإن كان السید الحمیری قد استطاع أن یقلب السحر على الساحر كما رأینا.


هذا.. وقد دخل هذا التناغم مع حكام الجور فی مبادئهم، وتوفرت له خلفیة وحمایة عقائدیة.


قال الوارجلانی: «.. ومن الرأی تأمیر أمیر المؤمنین، وعزله، إن ضیع أمور الدین، وقتله إن امتنع من العزلة إلى الهوان.


ومن الرأی الكون مع أئمة الجور تحت أحكامهم ما أقاموا حكم الله فیك، ولم یحكمك على معصیة، وتأدیة حقوق الله التی علیه إلیهم، وأخذ العطایا من بیوت أموالهم، والجهاد والغزو معهم جمیع ملك الشرك، والخروج علیهم إذا جاروا وبغوا»(2).


وقال محمد بن یوسف أطیفش: «والمصنف مصرح بجواز الإقامة تحت الأئمة الجورة، من أهل التوحید مطلقاً، من أهل مذهبنا، أو من غیرهم.


____________



(1) راجع: دیوان السید الحمیری [هامش] ص397 و398 عن أعیان الشیعة ج12 ص174 والقصیدة موجودة فی الغدیر ج2 ص206 والمناقب ج2 ص133 و159 و163 و239 وج3 ص102 و227 والكنى والألقاب ج2 ص307.


(2) الدلیل والبرهان المجلد الأول الجزء الثانی ص78.













الصفحة 302


وذلك ردّ على الصفریة، والأزارقة، والنجدیة، لأنهم أوجبوا الخروج على الجورة، وبراءة كل من خرج عن الإسلام إلى الشرك إلخ..»(1).


وقال محمد بن یوسف أطیفش أیضاً: «ونحن بعد لا نقول بالخروج على سلاطین الجور الموحدین. ومن نسب إلینا وجوب الخروج فقد جهل مذهبنا»(2).


وله كلام حول كون معسكر السلطان دار بغی، أو لا. وعن المراد من هذا فراجع(3).


وقال النكاریة، وهم فرقة من الإباضیة: «بعدم جواز صلاة الجمعة وراء الأئمة الجورة..


مع أن أئمة الإباضیة كانوا جمیعاً من أیام جابر بن عبد الله یقولون: إن صلاة الجمعة واجبة وراء الأئمة الجورة ما أقاموها، ووجدت شروطها. وكانوا هم أنفسهم یصلونها وراء الحجاج.


وكانوا یقولون: إنه یحل أخذ العطاء من الملوك ما لم یؤد إلى حرام. وكان جابر یأخذ العطاء من عامل الحجاج»(4).


الإباضیة.. وعلی أمیر المؤمنین (علیه السلام):


وعلى كل حال: فإن «الخوارج» ـ والإباضیة منهم(5) ـ الذین یعتقدون بكفر الخلیفتین: عثمان، وعلی (علیه السلام)، وذلك هو العمدة، والمحور،


____________



(1) شرح عقیدة التوحید ص165.


(2) الإباضیة عقیدة ومذهباً ص139.


(3) الإباضیة عقیدة ومذهباً ص139.


(4) الإباضیة عقیدة ومذهباً ص67 عن الإباضیة فی الجزاء ص56.


(5) راجع: شرح المواقف للإیجی ج3 ص292 والخوارج فی العصر الأموی العباسی ص240 و241.













الصفحة 303


والمبرر لوجودهم كخوارج..


فقد رأوا بأم أعینهم: كیف أن مصیرهم هو التلاشی، والفناء، أمام واقع التحدی، لكل مثل وقیم الأمة الإسلامیة، فاستمرت تلك الفرق على عتوها وعنادها. حتى انقرضت.


ولكن فرقة الإباضیة منهم: حاولت التخفیف من حدة عقائدها، ومواقفها منذ البدایة.. فاستطاعت أن تحتفظ لنفسها بخیط حیاة، وتجاوزت القرون الأولى، وأصبحنا نلاحظ فی تألیفات الإباضیة: أن علماءهم انصرفوا عن الجهر بالإساءة إلى أمیر المؤمنین (علیه السلام).


ولعل مردّ ذلك إلى تأثرهم بأحد كبار علمائهم، وهو عبد الكافی التناوتی التونسی، المتوفی قبل عام 570 هجریة.


فقد: «جنح التناوتی إلى الاعتدال فی مسألة الحكم على الخلیفة علی، وهی دائماً من أمهات المسائل عند الإباضیة»(1).


ویحكى عن الحمزیة: «أنهم یتوقفون فی أمر علی (علیه السلام)، ولا یصرحون بالبراءة منه، كما یصرحون بالبراءة من غیره»(2).


وهذا هو السر فی أن الإباضیة یستعملون ـ مؤخراً ـ أسلوب العتاب والشكوى من أمیر المؤمنین (علیه السلام)، على موقفه من أسلافهم من أهل النهروان، حیث قتلهم (علیه السلام) قتلاً ذریعاً، ولم ینج منهم إلا الشرید. وقد ذكر البعض أشعاراً ضمنها هذا العتاب له (علیه السلام) ذلك من دون أن یكون فیه تجریح ظاهر وصریح(3).


ونلاحظ: أنهم فی كتبهم یبذلون محاولات للاستدلال على صحة


____________



(1) دارة المعارف الإسلامیة ج5 ص488.


(2) الأنوار النعمانیة ج2 ص248.


(3) راجع: العقود الفضیة ص60و61 و77 و80.













الصفحة 304


إمامة الراسبی، وبطلان إمامة أمیر المؤمنین (علیه السلام). بل إنهم یدعون أنه (علیه السلام) قد تاب، ثم عاد فنكث(1).


ویحاولون أیضاً: الاستدلال على خطئه (علیه السلام) فی مواقفه، وصحة ما ذهب إلیه «الخوارج» الذین خاصموه(2).


بل لقد وجدناهم یبذلون محاولات لتكفیره (علیه السلام)، كما یظهر من مراجعة كلماتهم(3). ولكنها محاولات حواریة هادئة، بحسب الظاهر.. لا تبادر إلى السب والشتم والتكفیر بصورة صریحة.


قالوا أیضاً: «.. وعند فقهاء الإباضیة: أن علیاً مستحل فی قتلهم، وأنه تجزیه التوبة من غیر عزم. وهذا هو حكم المستحل، إن أراد التوبة، بخلاف الذی یأتی الشیء، وهو یعلم أنه حرام، فهذا لا توبة له، إلا بردّ المظالم، والتخلص إلى أربابها»(4).


بل لقد نقل لی البعض: أن علماءهم الموجودین فعلاً فی الجزائر یظهرون الحب لأمیر المؤمنین وآله (علیهم السلام) ویتبرؤون من ابن ملجم، وینكرون أن یكون منهم!!


فإن صح هذا، فإنه یكون تطوراً جدیداً وهاماً فی هذا المجال.


____________



(1) راجع: العقود الفضیة ص50.


(2) راجع: المصدر السابق ص162 و64 والاستقامة ج1 ص57 و63 وراجع ص118 و120.


(3) الاستقامة ج1 ص119.


(4) العقود الفضیة ص81.













الصفحة 305


ولكن الذی یظهر هو: أن تبرؤهم من ابن ملجم یرجع إلى أمر آخر، ولیس هو الحب لأمیر المؤمنین (علیه السلام)، ولا لتخطئتهم ابن ملجم فی قتله إیاه، وهذا الأمر هو الذی أشار إلیه المسعودی بقوله: «وكثیر من «الخوارج» لا یتولى ابن ملجم؛ لقتله إیاه غیلة»(1).


وأما ما نراه: من مهاجمة الإباضیة للخوارج والمارقة فی كتبهم؛ فلا یدل على حبهم لعلی، ولا على تغیر فی مواقفهم العدائیة له (علیه السلام)..


لأنهم إنما یقصدون بهم خصوص الأزارقة(2).


قال محمد بن یوسف بن أطیفش: «كان أصحابنا والأزارقة جنداً واحداً، ولما ظهر منهم القول بإباحة الدم والمال بالذنب، فارقهم أصحابنا، كابن وهب، عبد الله»(3).


فهذا النص یدل على أمرین:


الأول: أن سبب مفارقة الإباضیة للأزارقة هو مقالتهم تلك، التی لم یكن الإباضیة یحبذونها؛ لمیلهم إلى الاعتدال فی هذا الأمر.


الثانی: أن الإباضیة هم من «الخوارج» أیضاً. وهذا یعنی: أن هجومهم على «الخوارج» إنما یقصد به تهجین مقالة الأزارقة لا غیر..


وتصریحهم آنفاً بأنهم أتباع عبد الله بن وهب الراسبی یدل على ذلك أیضاً، فإن الراسبی كان رأساً فی «الخوارج».


____________



(1) التنبیه والإشراف ص257.


(2) یتضح ذلك بمراجعة كتبهم، مثل كتاب: شرح عقیدة التوحید، وكتاب: الدلیل والبرهان.


(3) شرح عقیدة التوحید ص84.













الصفحة 306


قال محمد بن یوسف أطیفش: «إذا قلنا: الوهبیة، نسب إلى عبد الله بن وهب الراسبی، فلا إشكال فی تسمیة أصحابنا العمانیین، والخراسانیین، وغیرهم: وهبیة.


وإذا قلنا: نسب إلى الإمام عبد الوهاب فی المغرب؛ فكیف یسمى اهل المشرق، كأهل عمان وخراسان: وهبیة؟


الجواب: أنهم یسمون وهبیة؛ لأنهم مقرّون بأنه إمام عدل على الصواب، وأنه وإیاهم شملهم مذهب ودیانة واحدة»(1).


ویذكرون أیضاً: أن ابن إباض قد ذكر فی رسالته لعبد الملك بن مروان: أنه یتولى «الخوارج» الذین حاربهم علی، ویبرأ من ابن الأزرق وأتباعه(2).


وبذلك یكون قد أرضى عبد الملك من ناحیتین:


الأولى: ببراءته من الذین یحاربونه، وهم خصوص الأزارقة.


والثانیة: بإعلانه العداء لعلی (علیه السلام)، من خلال تولیه للذین حاربوه من المارقة.


المیزان: هو علی (علیه السلام)


ویبقى أمیر المؤمنین (علیه السلام) هو المیزان والمعیار للحق وللصدق.. ولا یفید «الخوارج» ولا الإباضیة أی تنازل لا یتضمن الاعتراف الصادق بأن الحق مع علی وأن علی مع الحق. وقد ظهر أن الإباضیة وغیرهم حین أظهروا المرونة بعض الشیء تجاه علی (علیه السلام) لم یكونوا صادقین فیما أظهروه، كما ظهر من بعض مؤلفاتهم التی نشرت فی هذا العصر.


____________



(1) شرح عقیدة التوحید ص77.


(2) العقود الفضیة ص125.













الصفحة 307


فهذا یوسف بن إبراهیم الوارجلانی المتوفی سنة 570 هـ.


بعد أن ذكر: قبوله بخلافة الشیخین، ورفضه لإمامة عثمان بسبب ما أحدثه، تحدث عن علی (علیه السلام) فذكر أن ولایته كانت حقاً فی أول أمره.


ثم قال: «.. وأما علی فقد حكم بأن من حكم فهو كافر، ثم رجع على عقبیه، وقال: من لم یرض بالحكومة كافر.


فقاتل من رضی الحكومة، وقتله!! وقاتل من أنكر الحكومة وقتله!! وقتل أربعة آلاف أواب من أصحابه. واعتذر.


فقال: إخواننا بغوا علینا؛ فقاتلناهم.


فقد قال الله عز وجل فی من قتل مؤمناً واحداً: (ومن یقتل مؤمناً متعمداً.. إلى قوله: عذاباً عظیماً).


فحرمه الله من سوء بخته الحرمین، وعوضه دار الفتنة العراقین، فسلم أهل الشرك من بأسه، وتورّط فی أهل الإسلام بنفسه»(1).


وواضح: أن كلام هذا الرجل ینطوی على مغالطات واضحة، فإن الأوابین الذین قتلهم هم الذین أجبروه على قبول التحكیم، وهدّدوه بأنه إن لم یقبل ناجزوه الحرب، وسلموه إلى معاویة. ثم كفروه لأنه استجاب لهم، وقبل ما یریدون ورضخ لتهدیداتهم.


ثم هؤلاء الذین وصفهم بـ «الأوابین»: هم الذین وصفهم رسول الله (صلى الله علیه وآله) بانهم یمرقون من الدین مروق السهم من الرمیة، ویقرؤون القرآن ولا یجاوز تراقیهم.


____________



(1) الدلیل والبرهان المجلد الأول جزء1 ص29.













الصفحة 308


وبالنسبة لسلامة أهل الشرك من بأسه، وتورطه فی أهل الإسلام بنفسه؛ فإن هذا إنما ینطبق علیهم هم، ولیس علیه، كما أوضحناه فیما سبق..


وقال الوارجلانی أیضاً عن الزیدیة والحسینیة: «قد وافقوا جمیع المسلمین فیما یقولونه، إلا فی التحكیم، الذی صاغوه لعلی. وقد قتل من قال به ومن أنكره؛ فجمع فی قتاله بین المحق والمخطئ.


ولعلی تخلیط دون شیعته فی قوله: إن كل مجتهد مصیب؛ فهدر دم عثمان، وطلحة والزبیر، ومعاویة، وعمرو، وعذر نفسه، وعذر أهل النهروان، ولم یعذروه. ففی فحش مذهب الشیعة ما یغنی عن الرد علیهم»(1).


وقال الحارثی الإباضی: «على رأی بعض المسلمین، ومنهم الإمام علی: أن كل مجتهد مصیب، وهؤلاء اجتهدوا»(2).


ولا ندری من أین جاؤوا بهذا الفریة على أمیر المؤمنین (علیه السلام) من أنه یقول: كل مجتهد مصیب. فإن هذا القول هو قول مخالفیه ومناوئیه.. وكلماته (علیه السلام) صریحة فی خلاف هذا القول(3).


ولا ندری أیضاً كیف عذر (علیه السلام) أهل النهروان، ومتى؟..


وقال الوارجلانی أیضاً: «ثم إن علیاً رجع على عقبیه، ورضی بالحكومة التی كفر راضیها، وضرب ساخطها، فقتل الفریقین جمیعاً، الراضی والساخط، والمحق والمبطل.


____________



(1) الدلیل والبرهان المجلد الأول جزء1 ص32.


(2) العقود الفضیة ص64.


(3) راجع: الصحیح من سیرة النبی (صلى الله علیه وآله) ج1 ـ ص217 فما بعدها ففیه ما یدل على أن غیر علی (علیه السلام) وشیعته الأبرار هم الذین یذهبون إلى هذه المقالة.













الصفحة 309


وكنا على الأصل الأول، الذی فارقنا علیه أبا ذر، وابن مسعود، وعمار بن یاسر، الذی جعله رسول الله (صلى الله علیه وآله) علماً للفتنة، حین قال: عمار تقتله الفئة الباغیة، فأثبته على الهدى عند الاختلاف. وحین قال: علیكم بهدى عمار، وبهدى ابن أم عبد، فقال: ما لهم ولعمار، یدعوهم إلى الجنة، ویدعونه إلى النار، فوقعنا بحمد الله فی حزبه»(1).


والإباضیة هم الذین نشروا كتب الوارجلانی، فنشر الإباضیة لهذه الكتب التی فیها أمور كهذه، وتبنیهم لها دلیل على أنهم یظهرون شیئاً ویبطنون خلافه.


____________



(1) الدلیل والبرهان المجلد الأول جزء 1 ص39.













الصفحة 310












الصفحة 311